همس الجياد
كانت الساعة حوالي الثامنة صباحاً عندما شاهدت المهندس حسن يتقدم نحوها قبل أن تدخل للعيادة...
حسن:
ـ صباح الخير يا دكتورة.
إيناس:
ـ صباح النور يا بشمهندس.
حسن:
ـ ها إيه الأخبار؟ إستفدتِ من الورق والكتب اللي جوه؟
إيناس:
ـ جداً.. بصراحة من غيرها ما كنتش عارفة حاعمل إيه.
حسن:
ـ كويس قوي.. عموماً المهندس خالد وصل وهو منتظرك في مكتبه.
تسمر جسدها وتحجرت عيناها وكأن دلواً من المياة الباردة قُذف في وجهها, المهندس خالد صاحب المزرعة والغريب الدخيل الذي اقتحم عزلتها ليلة أمس!
إذاً فالفيلا بجوارها ليست مهجورة كما تصورت عندما لمحتها..
ويبدو أن الرجل عاد لسكناه فوجدها تستمتع بلحظات من السبات في الخلاء..
شعرت بالغضب الشديد مما حدث ومن نفسها..
لاحظ حسن شرودها فقال بصوتٍ عالٍ بعض الشيء في محاولة لتنبيهها:
ـ دكتورة إيناس.. دكتورة إيناس.. إنتِ معايا!
إيناس:
ـ أه.. آسفة.
حسن:
ـ طيب.. البشمهندس مستنيكِ
إيناس:
ـ حاضر
كانت تتوجه لغرفة المكتب بخطوات متثاقلة, ودت أن تتراجع وتترك المكان بأكمله وتعود مرة أخرى لذكرياتها.. فهذا المكان يسلب منها ذكراها بخبث ويحشو عقلها بأحداث أخرى غير ذات أهمية..
ولكن أين ستعود؟.. هل ستعود من أجل أن تجد آخر أو ربما أخرى في شرفة زوجها؟..
تلك الشرفة التي شهدت أجمل لحظات عشقها وتحولت بين ليلة وضحاها لمرتع للغرباء.
قبل أن تَنفذ أفكارها كانت قد وصلت بالفعل لغرفة المكتب..
كان الباب مفتوحاً وعندها استطاعت رؤيته بوضوح قبل أن يلمحها, كان شاباً يبدو أنه في الخامسة والثلاثين من العمر.. عرفته على الفور فعيونه مميزة بشكل غريب لا تستطيع أن تخطئها حتى إذا رأيتها فقط لمرة واحدة..
كان يتفحص بعض الأوراق أمامه بنظرة عابسة وقد اتكأ على مقعده بلامبالاة ورفع إحدى قدميه فوق طاولة صغيرة بجانب مكتبه..
لا يبدو كهؤلاء المنمقين بحللهم الغالية خلف المكاتب الفخمة, فقد كان يرتدي سروالاً من خامة الجينز وقميصاً بخطوط طولية ويجلس خلف مكتب يبدو متواضعاً وليس فخماً بالمرة.
طرقت الباب طرقات خفيفة لتنبهه بقدومها ولكنه لم يعيرها إنتباهاً بالنظر نحوها فقط جاءها صوته الأجش وهو يقول:
ـ اتفضلي.
توجهت داخل الغرفة وجلست بالمقعد المقابل له ولكنها لم تتحدث ولم تنظر نحوه..
ظلت صامتة منتظرة في غضب إنتهاءه من الأوراق أمامه..
نظر نحوها وكانت ما زالت غير منتبهة ونظراتها موجهه نحو الأرض, لا يعلم لماذا لم يتحدث على الفور وظل يقرأها بعينيه لوهلة..
ما سر تلك المرأة التي كلما رآها وجد نفسه غارقاً في ملامحها وكأنها لوحة فنية يسعى لفك طلاسمها؟!!...
كانت تبدو أكثر توتراً من ليلة أمس, وكيف لا؟!.. لقد رآها في أقصى درجات سلام النفس البشرية, ولكن كانت ملامحها أكثر وضوحاً تلك المرة, وجهها البيضاوي وخصلاتها البندقية التى استرسلت خلف أذنيها فبدت كأمواجٍ هادئة.. كانت تبدو أنيقة في حلتها الرمادية التي أظهرت طول قامتها ورشاقة قِدها..
رفعت بصرها فجأة فإذا به يتأملها ودون أن يرتبك ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة وقال لها بصوت هادئ:
ـ صباح الخير
ردت بارتباك:
ـ صباح النور
خالد وما زالت نظراته مرتكزة عليها دون تغيير:
ـ دكتورة إيناس, صح؟
إيناس وقد تحول بصرها عنه وعادت مرة أخرى لمراقبة السجادة تحت قدميها بألوانها القاتمة:
ـ أيوه.. أنا.
خالد:
ـ أخبار الشغل إيه؟.. حسن أعتقد وضح ليكي بعض الأمور.
إيناس:
ـ أيوة.
خالد:
ـ روحتى الإسطبلات صح؟
إيناس:
ـ إمبارح مع بشمهندس حسن.
خالد:
ـ تمام.. مبدئياً احنا مواعيد شغلنا من 8 ل 4.. والأجازات 3 أيام كل أسبوعين.. وبالنسبة ليكي بحتاج منك مرور دوري كل يوم الصبح على البلوكات, وتعملي تقرير بكل فرس, اسم ووزن مع رقم البلوك والتطعيمات والمقويات اللي ممكن يحتاجها بشكل فردي, وكمان لو تعب بتكتبي في التقرير العلاج اللي أخده والكمية.. دلوقتي حتيجي معايا نمر على البلوكات وتشوفي الفرس علشان برده حوريكي كام مشكلة بواجهها هناك.. تمام.
كانت صامتة تحاول استيعاب الكثير مما قاله, خاصةً أنها لم تفهم لفظ البلوكات الذي كرره أكثر من مرة واستنبطت أنه يقصد ربما الغرف الصغيرة الخاصة بالخيل...
توجه نحو السيارة وهي خلفه, قفز سريعاً داخل السيارة وركبت هي بهدوء وكانت تشعر بالإرتباك لإضطرارها للركوب بجانبه على عكس ركوبها مع المهندس حسن الذي اعتبرته كأخٍ أكبر.
قال وهو يحرك السيارة:
ـ بتعرفي تسوقي يا دكتورة؟
إيناس:
ـ لأ.
خالد:
ـ أصل يومياً لازم تفوتي الصبح على الإسطبلات, بس مش مشكلة ممكن تروحي معايا أو أي حد يوصلك من العمال لو أنا مش رايح.. وإذا اتعلمتِ السواقة, العربيات مكانها هنا والمفاتيح بتكون فيها.
أومأت برأسها بالإيجاب ثم ظلت صامتة بقية الطريق, وصلا سريعاً للإسطبلات.. وعندها لاحظت إرتباك العمال عند وصوله, وخوفهم الشديد من كلماته, وإمتثالهم السريع جداً لأوامره.. أما هو فكان يبدو كمن عاد لمنزله بعد غياب..
انطلق سريعاً ليطمئن على الخيل خاصته ويسأل العمال عن كل جواد بالإسم والحالة وبمتابعة دقيقة جداً لكل ما يحدث..
أخيراً توجه نحوها ببصره بعد أن ظنت أنه ربما نسي وجودها
نظر خالد نحوها وقال بلهجة آمره:
ـ تعالي يا دكتورة..
تقدمت سريعاً داخل الغرفة الصغيرة وكان وقتها يجلس على الأرض وقد أمسك بإحدى قدمى الحصان ورفعها قليلاً ثم قال:
ـ شايفة الحافر؟..
لم تستوعب ماذا يريد!!.. فالحافر يبدو كأي حافر أو ربما لا!!..
فتلك هي المرة الأولى التي ترى فيها حافر جواد..
حاولت أن تخفي إرتباكها وتابعت:
ـ أيوه..
خالد بغضب:
ـ بصي يا دكتورة.. عندي المشكلة دي مع كذا حصان, جروح ومشاكل في الحوافر.. والعمال مش واخدين بالهم والإسم سايس خبير.
"أرجع أنا ألاقي الخيل بقى أعرج ساعتها حاكسر رجلكم"
قال جملته بغضب شديد وصوت زاعق وهو يوجهه للعمال ثم تابع بجدية وهو ينظر نحوها:
ـ اكتبي معايا رقم البلوك والفرسة إسمها ياسمين.. وحنفوت على الباقي, وبعد ما نخلص ترجعي على العيادة تشوفي مراهم الجروح اللي عندك وفي كام رباط ضاغط.. و كمان لو محتاجين مضادات حيوية وترجعي وتخلي الباشوات دول يشتغلوا.. مفهوم؟
إيناس:
ـ مفهوم.
قالتها سريعاً حتى قبل ان تستوعب كل الكلمات وتحاول أن ترتب داخل عقلها كل ما طلبه منها..
مر سريعاً على بقية الأفراس ولم يخلو مروره من التوبيخ والإهانة لكل سائس وعامل مقصر ثم نظر نحوها سريعاً وتابع:
ـ كتبتِ يا دكتورة؟
إيناس:
ـ أيوه كتبت.. في 4 عندهم مشاكل في الحافر.. و2 عندهم مغص.
خالد:
ـ بيسو.. يا بيسو..
جاءه على الفور شاباً صغير السن والحجم أيضاً, له وجه بشوش ولكن كان يبدو عليه بعض القصور العقلي..
تحدث بتلعثم شديد وهو يجيبه:
ـ بيه.. بيه.. بيه..
خالد وبنفس نبرته الجادة:
ـ خد الدكتورة إيناس على العيادة.. حتجيب شوية حاجات وبعدين حترجعها هنا تاني.. معاه يا دكتورة.
ظلت جامدة لمكانها لوهلة وهي تفكر في إنتقالها مع هذا الشاب وقدرته على قيادة السيارة..
جاءها صوت خالد بنبرته القوية وهو يقول:
ـ يلا يا دكتورة.. تجيبي الأدوية وترجعي.. تنبهي على المساطيل دول وتشرفي عليهم وتتأكدي إن الخيل خد العلاج.. وما تخافيش من بيسو مش خطر!
تعالت ضحكات بعض العمال بعد جملته ومنهم بيسو نفسه, ولكن خالد نظر نحوهم نظره جعلتهم يصمتوا على الفور وتابع:
ـ بتضحكوا على إيه على خيبتكم!... يلا كل واحد على شغله.
انطلقوا جميعاً كالنحل, كلٍ إلى عمله وهرع بيسو مسرعاً إلى السيارة في انتظارها, وتوجهت هي وراءه على الفور ربما هرباً من هذا الــ "خالد" الذي رأت منه في أقل يوم النقيضين.
*******************
كان يوماً طويلاً مر بسرعة البرق.. كانت مرتبكة وهي تبحث عن الأدوية المناسبة في العيادة, وزاد إرتباكها عندما عادت ووجدت خالد قد اختفى وأن عليها القيام بكل شيء وحدها.. كان السائس دسوقي ينظر نحوها بخبث وكأنه لمس حيرتها وإرتباكها, ولكنها استجمعت شجاعتها وبدأت في توزيع المهام على الجميع بما فيهم دسوقي نفسه ومر اليوم بسلام, بل وشعرت بالرضا عن نفسها حيث استطاعت في النهاية تدبر أمرها بمفردها.. لم تكد تسند رأسها على الأريكة حتى سمعت طرقات الباب قامت متكاسلة فإذا بها رقية..
رقية:
ـ إيه الأخبار؟
إيناس:
ـ مدام رقية.. اتفضلي.
رقية:
ـ شكلك مجهد, أكيد خالد طلب منك شغل كتير النهارده.
ابتسمت إيناس قائلة:
ـ يعني شوية.
رقية:
ـ ده الطبيعي.. يلا بقى ما فيش أعذار النهارده.. حنتغدى سوا, يعني حنتغدى سوا!
إيناس:
ـ أيوه.. بس..
رقية:
ـ هو إنتِ مكسوفة مني؟!.. ده أنا أختك, وبعدين مش حيجيلك نفس تاكلي لوحدك.
إيناس:
ـ وبرده ما ينفعش أتقل عليكِ كده إنتِ وبشمهندس حسن.
رقية:
ـ إيه الكلام اللي يزعل ده!
إيناس:
ـ معلش خليني براحتي أحسن.
رقية:
ـ خلاص نتغدى سوا النهارده, وبعد كده خليها بظروفها.. أنا عملت حسابي يلا بقى
إيناس:
ـ خلاص.. حغير بس هدومي وأحصلك.
رقية:
ـ ماشي يا جميل مستنيينك.
وبالفعل بدلت إيناس ملابسها وتوجهت لمنزل رقية...
كان خالد وحسن بالحديقة عندما بادره الأخير بسؤاله:
ـ أخبار إيناس في الشغل إيه؟
إبتسم خالد بمكر قبل أن يجيب ثم قال:
ـ خايفة شوية, بس على الأقل بتسمع الكلام!
حسن:
ـ إنت عملت إيه النهارده؟
خالد:
ـ رمتها في البحر وسبتها تعوم لوحدها!
حسن:
ـ برده طريقتك مش عايز تغيرها.. لازم تساعدها في الأول دي خريجة جديدة.
خالد:
ـ لازم تتعب وتدور وتاخد ثقة علشان ما حدش يستغفلها من العمال.. وبعدين ما هي غلطتك!.
حسن:
ـ غلطتي أنا!!!
خالد:
ـ يعني رايح تعين دكتورة, وخريجة جديدة, وكمان متجوزة!
حسن:
ـ وإنت عرفت منين إنها متجوزة؟
خالد:
ـ في إيدها الشمال دبلة.
حسن:
ـ بس هي مش متجوزة.
خالد:
ـ مش فاهم!
حسن:
ـ إيناس أرملة, جوزها مات من فترة كده.
خالد:
ـ أرملة!.. وايه اللي سفرها تشتغل في آخر الدنيا لوحدها كده؟!
حسن:
ـ ححكيلك..
ابتسم خالد بسخرية بعدما قص عليه حسن قصة إيناس, وترشيح دكتور علي لهذا المكان من أجل عملها وعلاجها في آن واحد..
ثم قال ممازحاً:
ـ آآااااااه.. يعني أخو مراتك بيبعت المرضى يقضوا فترة النقاهة عندي.. تكية هي!!..
حسن:
ـ إيه مش عاجبك ولا إيه؟!
خالد:
ـ لا يا سيدي... عاجبني ونص!.. ده دكتور علي ده حبيبي!
حسن:
ـ بس على فكرة, ممكن تكون هي أفضل من الدكاترة الرجالة اللي بيتأمروا علينا وعايزين يشتغلوا في مكان تاني وتالت..
خالد:
ـ ده لو كملت!
حسن:
ـ إيه.. ناوي تطفشها؟!
خالد:
ـ مش قصدي.. بس مسير دموعها تنشف, وتلاقيها قاعدة في الكوشة من تاني وبسرعة قوي كمان.. صدقني أنا بفهم اللي زيها كويس قوي!
صمت حسن عندما استمع لكلمات صديقه, وما عساه أن يقول فخالد ما زال متأثراً بأمه التي تزوجت ثلاث مرات حتى الآن!.. ويرى النساء كلهن سواء.
في تلك الأثناء وصلت إيناس لمنزل رقية وما إن دلفت حتى رأت خالد وحسن وقد إتجها لغرفة المعيشة قادمين من الحديقة..
كانت رقية قد جهزت المائدة ودعتهم جميعاً للجلوس, وكانت إيناس تجلس بمواجهة خالد الذي رمقها بنظرة ساخرة لم تفهم المسكينة ماهيتها... لاحظت رقية أن خالد لم يوجه لإيناس سوى تحية فاترة واقتصر الحديث بعد ذلك عليها هي وحسن, ولكنه كان يختلس بعض النظرات نحوها من آن لآخر...
أما هي فكانت تجلس معهم بنصف عقل, فقد افتقدت ذكريات زوجها.. كانت تود إختلاس بعض الوقت مع نفسها ربما لتنعم ببعض اللحظات الحلوة مع طيفه.
ليست هناك تعليقات: