Header Ads


قصص

أسند رأسه على مقعد السيارة وأغمض عينيه في محاولة لإختلاس ربما ساعة من النوم بعد رحلته الشاقة..
لم يتوقع أن فنجان القهوة الذي دُعيّ إليه في مقهى صديقه سام سيؤدي به في النهاية إلى عدم اللحاق بطائرته, واستبدالها بأخرى..
كانت رؤية مارجريت تمثل مفاجأة بالنسبة له, خاصةً أنه كان يظن أنها تمكث بالبرازيل مع إبنتها...
مارجريت.. زوجته الأولى, تلك المرأة التي زج بها داخل عالمه دون رغبة وأخرجها منه دون ذنب!!..
أغمض عينيه عندما رآها وابتلع قهوته سريعاً رغبة في الهروب, ولكنها استوقفته قبل أن يتوجه لمخرج المقهى, كانت نبرتها حانية, أمسكت كلتا يديه بقبضةٍ مرتعشة وهي تقول:
ـ خالد.. إنت مش فاكرني؟
نظر لها بدهشة وبصوته الرخيم أجابها بثقة:
ـ وهو ممكن الواحد ينسى واحدة كانت مراته, مارجريت!!
ابتسمت بسخرية أو ربما بحسرة وتابعت:
ـ ممكن خالد.. وخصوصاً لو كان جواز زي جوازنا!
أخرج نفساً عميقاً من صدره وشعر للحظات بالآسى من أجلها, جذبها برفق ودعاها للجلوس ثم تابع برقة غابت عنها وعنه منذ زمن وقال: ـ مالك مارجريت؟.. شكلك حزين.
كانت بالفعل تبدو حزينة, بل تمكن الزمن من وجهها ولم تعد مساحيق التجميل قادرة على إخفاء بصمة السنوات..
ابتسمت مرة أخرى وتابعت:
ـ أنا عرفت من سام إنك هنا, وإنك حتبيع الشركة وممكن مش ترجع تاني وعلشان كده طلبت منه يعزمك هنا علشان أشوفك.
خالد بدهشة:
ـ تشوفيني!!
مارجريت:
ـ أو أودعك.. ممكن مش نشوف بعض تاني, وعلشان كده كان لازم أقابلك وأقولك, خالد..
خالد بدهشة:
ـ تقوليلي إيه؟!
مارجريت:
ـ أنا مش زعلان منك, خالد!
كانت جملتها صادمة بالنسبة إليه..
فكيف لا تكون غاضبة منه بعد ما كل فعله بها؟!!..
تزوجها نكاية بأمه.. لم يقترب منها مرة واحدة كزوج, بل كان يتعمد أن يُشعرها بأن زواجها منه خطأ فادح وأنه لم ولن يرغب بعجوز تسعى لتجديد شبابها بالزواج..
وفي النهاية طلقها بعد عدة أشهر..
لاحظت مارجريت اندهاشه فابتسمت مرة أخرى وتابعت:
ـ أيوه خالد.. أنا مش زعلان.. وقتها كنت زعلان كتير منك.. كنت أكرهك كتير, بس بعد كده.. فهمت..
نظر لها والغضب يبدو كمارد متجسدٍ في عينيه وقال:
ـ فهمتِ إيه؟
مارجريت:
ـ إنت لسه عصبي, خالد.. المفروض تكون اتغيرت.
خالد:
ـ أنا بسألك, مارجريت.. فهمتِ إيه؟
مارجريت:
ـ فهمت إنك مش كان قصدك مارجريت.. إنت كنت حتتجوز أي ست كبير تقابله وقتها, وكنت حتعمل معاه زي ما عملت معايا بالضبط.
صمت قليلاً في محاولة لإستدعاء هدوءه ثم لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وتابع:
ـ ده تحليل نفسي!.. ما كنتش أعرف إني معقد!
مارجريت:
ـ أنا كمان ما كنتش وقتها أعرف, خالد.. بس بعد كده فهمت.
خالد:
ـ وإنتِ بقى جاية مخصوص علشان تقولي لي الكلمتين دول؟!!
مارجريت:
ـ خالد.. أنا مش بقول كده علشان أضايقك, بس دلوقتي أنا فهمت مشاعرك.
خالد:
ـ اللي هي إيه بقى؟
مارجريت:
ـ فهمت إنه كله بسبب الماما خالد مش أنا, الماما مأثر عليك كتير.. وإنت عملت ده علشان تضايقه هو مش حد تاني.. علشان كده خالد أنا مش زعلان.
كانت مجرد كلمات لكنها كانت تقتحم عقله كطرقات ساخنة.. ظل شارداً بعد أن ألقت بكلماتها وتركته لذكرياته, منذ قدومه لأمريكا.. لا بل قبل ذلك بسنوات.. وقرارته خطأ تلو الآخر..
منذ أن دخل هذا الرجل حياته, هذا الزوج الذي أحضرته أمه لعالمهما دون تمهيد.. دون اعتبار لمشاعره, ليستولي بعد ذلك على قلبها واهتمامها وعقلها, بل وأراد ان يستولي عليه هو أيضاً وكل ما يمتلكه.. لا.. مهلاً هو لم يرتكب خطيئة, بل دافع وبشراسة عن حقه.. وإذا كانت مارجريت خطيئته التي أنبه ضميره عليها لسنوات, فبالتأكيد كارمن ليست كذلك!!
كان صوت عم ريحان السائق يبدو كالصدى داخل عقله الغائب..
استيقظ على كلماته وهو يقول:
ـ خالد بيه.. خالد بيه حمد الله على السلامة, خلاص وصلنا المزرعة.
نظر إلى ساعته فوجدها قد قاربت على الثالثة صباحاً نظر للسائق العجوز قبل أن يترجل من السيارة وتابع:
ـ سهرتك معايا يا راجل يا عجوز.
ابتسم له السائق وتابع:
ـ تعبك راحة يا بشمهندس.
دخل خالد إلى فيلته وهو يصب جام غضبه على السفر والطائرات, بل ومقابلة مارجريت التي تسببت له في هذا الصداع البائس..
توجه لأحد الأدراج وأخرج حبة من المسكن ابتلعها على الفور دون مياه, ثم أعد لنفسه كوباً من القهوة الساخنة وقرر أن يستمتع بها في الهواء الطلق..
كان خالد شاباً في العقد الثالث من عمره طويلاً, عريض المنكبين يتميز بشعر داكن وملامح حادة, ربما تحمل من الغموض أكثر ما تحمل من الصرامة, عيون تبدو كعيون النمر تنظر بحدة غامضة لكل ما تلمحه..
أخيراً وصل إلى مزرعته الغالية..
مملكته حيث السكون والطبيعة والنجاح..
فكلما نظر حوله كان يشعر بالفخر.. بالإنتصار.. بالنجاح..
خرج إلى الحديقة وظل واقفاً لدقائق قبل أن يلحظ الضوء الخافت المنبعث من الفيلا المجاورة..
في البداية أصابته الدهشة ولكنه ما لبث أن تذكر ما أخبره به حسن عن الطبيبة الجديدة, ولكن عاودته الدهشة سريعاً عندما لمح جسد امرأة ممدد في الهواء الطلق دون حركة!
في حركة سريعة تخطى الشجيرات الرفيعة بين الحديقتين, وبخفة اقترب من صاحبة الجسد الملقى على الأرض..
في البداية ظن أن مكروهاً أصابها ولكن أنفاسها المنتظمة وملامحها الهادئة جعلته يوقن أنها نائمة...
هم ليترك المكان ولكنه ما لبث أن تراجع وعاد ينظر نحوها مرة أخرى.. كانت امرأة جميلة تبدو في أواخر العشرينات, ترتدي فستاناً قطنياً قصيراً من اللون الأزرق وقد كشف بعفوية عن جمال ساقيها ورشاقة قِدها..
كان وجهها يبدو كقمرٍ غط في سبات هادئ وقد تناثرت خصلات شعرها من حوله في صخب.. خصلات شعرها التي تبدو كجدائل من البندق امتدت بمجون لتوقظ الليل من سباته وتناثرت كمعزوفة صاخبة فأخرجت السكون عن وقاره..
كانت شفتاها تتمتم بهمسات صامتة..
ود أن يقترب منها أكثر ليفسر كلماتها الغامضة, ولكنه آثر عدم الإقتراب.. ولاحت على شفتيه ابتسامة ساخرة, فربما إذا فعل ذلك وجدت المزرعة فضيحة ستتحدث عنها لسنوات!!.. ولكنه ظل واقفاً مكانه بلا حراك يراقبها ففي النهاية ما تشاهده عيناه ليس سيئاً على الإطلاق!!
*************************
في عزلتك المنشودة تغمض عينيك في سلام.. تتأرجح بهدوء داخل أحلامك, ولكن يُطل الفزع كضيف مفاجئ ويخرجك من سلامك سريعاً عندما تكتشف وجود دخيل.
وضعت يدها على صدرها ربما لتتأكد أن قلبها لم يقفز من مكانه, فمجرد أن فتحت عينيها وجدت هذا الوجه الصارم, تلك العيون الحادة التى تحاصرها بنظرات تحمل الدهشة والسخرية في آن واحد..
استقامت وهبت واقفة وعيونها تنظر نحوه في فزع ثم قفزت هاربة لتعود لمنزلها سريعاً لتوصد خلفها كل الأبواب بإحكام..
وقفت بثبات لدقائق..
كانت دقات قلبها ما زالت تصرخ على الرغم من إغلاقها لنوافذها بإحكام.. زمت شفتيها وشعرت بالغضب من هروبها بتلك الطريقة, بل كان يجب عليها تلقين هذا الغريب درساً على إقتحامه لعزلتها دون دعوة..
نظرت نحو الحديقة من خلف الزجاج ولكنه كان قد تبخر كالسراب مثلما ظهر..
******************
عاد خالد لمنزله وما زالت نفس الابتسامة الساخرة تعلو ملامحه..
الجميلة فزعت وكأنها استسلمت للنوم هكذا بمحض المصادفة!
هكذا أخبر نفسه, ففي النهاية رغم ملامحها البريئة ونظراتها الصادقة هي امرأة شأنها شأن كل النساء..
أغمض عينيه واستسلم أخيراً للنوم فلديه مقابلة مثيرة في الصباح!!..
************************
كانت مفاجأة سارة لحسن عندما لمح خالد بمكتبه في الصباح, اتجه نحوه قائلاً بمرح:
ـ خالد!!.. إيه المفاجأة الحلوة دي!
خالد:
ـ أبو علي.. صباح الفل..
حسن:
ـ صباح الخير يا جميل.. وصلت إمتى؟
خالد:
ـ إمبارح الفجر.
حسن:
ـ وعملت إيه هناك؟.. تمام.
خالد:
ـ آه.. خلصت الحمد لله.. بعنا آخر شركات الحاج, سامحني يا حاج.
قال جملته وهو ينظر لصورة أبيه المعلقة خلف مكتبه..
نظر له حسن بابتسامة وقال:
ـ أنا متأكد إنه لو كان عايش كان زمانه فخور بيك يا خالد, وبالمكان هنا.
خالد:
ـ الحاج كان طيب قوي.. أنا ما طلعتلوش وجايز كده أحسن.. كان زماني أخدت على دماغي!.
ضحك بعدها خالد بشدة..
نعم لقد ارتدى عباءة القوة ومنذ زمن, بل ربما عباءة البأس..
كان هذا هو السبيل الوحيد من أجل انتصاره واسترداد حقه بعد أن سُلب منه.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.